البدلة

 

ربما كان صيف ٩٢ أو ٩٣ .. كنا على مشارف عيد الأضحى .. يومئذٍ

قررت ان اصنع شيئًا يختلف … قررت أن ابدو غير تقليدي فى هذه السنة … سوف ارتدى بدلة جديدة فى العيد … لابد أن اكون انيقًا جدًا  … سأكون متميزًا عن باقى الأولاد … أبى و أمى لم يعترضا إطلاقًا و أحترما رغبتى بشكل غير مسبوق … فقط كان تنويه بسيط عن حرارة الجو و أن البدلة ثقيلة على هذا الوقت من العام … لكنى لم أبالى … لا بأس من بعض الحرارة  .. هذه معاناة ضئيلة إذا قارناها بالشعور الرائع الذى سأشعر به عندما يرانى الجميع فى كامل اناقتي يوم العيد و يمدحني الجميع أكثر من غيرى من الأولاد … خطف الأنظار كان أهم عندى من شعور الحر المؤقت. 


جاء يوم العيد المنتظر بعد سجالات عديدة و ليالى طويلة أحاول أن اختار فيها لون البدلة و الكرافت و القميص و الجزمة … كل شئ كان على ما يرام … شكل البدلة فى المرآه كان تمامًا مثل ما تخيلته … جميل جدًا … 


لكن طبعًا لو سار كل شئ كما توقعت لما كان هناك داعي لهذا المقال من اصله …. لابد ان تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن .. 


فى بداية اليوم لم اشعر بأى معاناة حتى بدأ اولاد خالى و أولاد خالاتى فى الوصول لبيت جدى … و كما هو متوقع فى  مثل هذه التجمعات ان يكون هناك الكثير و الكثير من اللعب … و لكن انا كنت حبيس هذه البدلة الملعونة … كلهم يلعبون براحتهم و انا حركتى ثقيلة جدًا بسبب هذه البدلة … لا استطيع الركض لأنى ارتدى جزمة و ليس كوتشى مثل الباقيين … لقد انتهت مرحلة النشوة و تعليقات الاستحسان و جاءت لحظة الحقيقة …. العيد باظ !!


لقد صرت مجبرًا على عدم الاشتراك فى اللعب … و اضطررت ان اجالس الكبار غصبًا عنى لأن هذا كان اقل ألمًا من أن اقف مع الاولاد و انا لا استطيع اللعب. 


استحضرت هذه القصة عندما سمعت لقاء لمايكل جاكسون فى أحد القنوات و قال ( انه مازال يشعر بالألم لأنه عندما كان طفلًا كان جميع الأطفال يلعبون و لكنه كان مجبر على التدريب على الموسيقى) سألته المذيعة ( لكن الأمر كان يستحق هذا الألم … لقد صرت أشهر مغنى فى العالم ) رد ببساطة ( لو عاد بى الزمن … لن اتنازل عن طفولتى فى مقابل أى شئ ) 


لقد عشت انا هذه المعاناة ليوم واحد و مازلت أتذكر إحساس المرارة إلى الآن … ولا استطيع ان اتخيل ان تكون هذه مرحلة الطفولة كلها فى حياة احدهم. 


رأيت يومًا طفل لا يتعدى الثانية عشر … يرتدى زى إمام مسجد و يحفظ بعض الخطب الدينية …. هذا المسكين اصبح مضطر ان يلبس لبس الكبار و يتكلم مثل الكبار و يتصرف مثل الكبار … لقد اصبحت تصرفاته محسوبة عليه … و الأدهى من ذلك انه ليس عالم دين لأنه ليس عنده من العلم ما يجعله مؤهل للفتوى أو الدعوة … سبب شهرته الوحيد انه طفل يبدو و يتصرف مثل الكبار … هو ليس عنده جديد ليقوله  .. هو فقط يشاهده الناس لأنه طفل مختلف شديد الحفظ و لو لم يكن طفل ما عرفه أحد. 


كل الاطفال الذين صاروا نجوم على السوشيال ميديا بسبب كلمتين حفظوهم سيكبروا ليصبحوا مسوخ آدمية تم تدميرها مبكرًا بسبب ضغوط شديدة من أجل الحفظ و اللبس و التكلف فى الكلام و التصرف … و يجب عليهم ايضًا تحمل انتقادات الناس إذا فشلوا فى تقديم محتوى مقبول … مع ان كل ما كان مطلوب منه فى هذه المرحلة العمرية هو ان يكون طفل .. فقط.


لو كان الآمر بيدى لقدمت كل اب أو أم يعرض اولاده لهذه الأضواء فى هذا السن المبكر للمسائلة القانونية و المحاكمة. 


لقد اعطاهم الله أمانة و هم أضاعوها من أجل الشهرة و المال …. و لا يسعنا إلا ان نقول ( ربنا يخرجنا منها على خير )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طنط سوسن و عمو حسن

الجاذبية و خفة الظل